من قلم : اسامة فوزي
لماذا لم ادافع عن فلسطين رغم اني احمل شهادة طيار ومظلي ولا اشرب دخان ولا اتعاطى مع النسوان
* بدأت الحكاية مع بائع بطيخ في حمص ... اشتريت منه بطيخة على السكين ... اي ان الشرط يفترض ان تكون البطيخة حمراء ومثل العسل ... ولما فتحها بسكينه طلعت البطيخة قرعة ... وبعد هات وخد ولما عرف اني فلسطيني نصحني بدل ان اشتري بطيخا ان اسافر الى فلسطين لتحرير ارضي من المغتصب اليهودي .... ولا اظن اني الفلسطيني الوحيد الذي يتلقى مثل هذه النصائح والتساؤلات كلما دخل في خلاف مع اخ عربي سواء كان شوفير سيارة في عاصمة عربية ... او ضابط في المخابرات او بائع بطيخ خربان ... كلهم تشاركوا مع حكامهم في خيانة شعب فلسطين وبيعها لليهود .... وكلهم يتحدثون في الوطنية والعروبية واساليب الكفاح والتحرير لمجرد انك اختلفت مع بائع بطيخ على بطيخة قرعة او مع شوفير تكسي نصاب لا يريد ان يعمل على العداد ... او ضابط جمرك في مطار عربي يريد ان يشلحك فلوسك وكروزات الدخان التي تحملها .
* ولو افترضنا جدلا ان الجامعة العربية قررت تحرير فلسطين ووضعتني على رأس الجيش الذي سيدخل القدس ورمتني فوقها ببراشوت .... فمن المؤكد اني سأقع اسيرا في يد اهمل عسكري اسرائيلي والسبب بسيط وهو اني منذ ان بزرتني امي في الاردن وحتى شاب شعر رأسي لم اطخ رصاصة واحدة ولا حتى على جرذون ... ولم اتلقى اي نوع من التدريبات الحربية او العسكرية رغم اني درست في مدارس عسكرية من الاول الابتدائي وحتى الثانوية العامة و رغم ان الملك حسين رحمه الله كان يفزرنا بشعاراته التي كان يطلقها حول وقوع الاردن على اطول خط مواجهة مع اسرائيل ... وضرورة ان يستعد الشباب لتحرير الارض .... وهو الشعار الذي قررت الجامعة الاردنية في عام 1973 تطبيقه علينا بل وجعلته من شروط التخرج حيث اعلنت الجامعة ان على جميع طلبة السنة الرابعة دخول دورة تدريبية عسكرية لمدة شهر وان التخرج من الجامعة مرهون بدخول هذه الدورة والنجاح فيها وان مهمة التدريب سيتولاها الجيش الاردني الباسل.
* لم اكن من ضمن المعترضين على القرار لاني كنت فعلاً ارغب بالتدرب على استعمال الاسلحة وهو اقل ما يمكن ان يفعله - آنذاك- شاب مثلي ولد وعاش وترعرع في دولة مواجهة ... لذا كنت اول الملتحقين بالمعسكر الذي اعده لنا الجيش في احدى احراش الجامعة الاردنية حيث نصبت الخيام العسكرية ووزعت علينا الملابس والبصاطير وملحقاتها .... وكنت ممن صرفوا لهم بنطلونا يتسع لثلاثة من حجمي قضيت طوال فترة التدريب ممسكا به حتى لا يسحل ولا زلت لا افهم معنى ان يصرف بنطلون حسني البرزان لغوار مثلا وبينهما ما بينهما من فروقات في الحجم !!
* افقنا في السادسة صباح اول يوم لنا في المعسكر على صراخ مدربنا " ابو سالم " وهو شاويش طيب القلب من بدو السرحان ... كان يجد صعوبة في كتابة اسمه لانه لم يكمل تعليمه الابتدائي وبعد ان صفنا طابوراً طلب منا ان نركض حول المخيم وان نردد وراءه بصوت عالٍ وجهوري عبارة " لا نسوان ولا دخان".
* لا ادري ما علاقة الدخان والنسوان بالتدريب العسكري على السلاح في الجيش الاردني لكني حفظت هذا النشيد عن ظهر قلب بعد ان افهمنا المدرب ان الخطوة الاولى في التدريب على السلاح هو الامتناع عن النسوان والدخان وهي معادلة لا زلت حماراً فيها بخاصة وان الجيش الاردني هو الوحيد في العالم تقريباً الذي يصرف لجنوده الاغرار - اي الذين يوظفهم وهم اطفالاً- كروز دخان "لولو" اسبوعيا وهذا النوع من الدخان الاردني الرخيص كان السبب في انتشار السرطان بين الجنود الفقراء وكان يصنع من الزبالة المتبقية من السجائر الفاخرة وكان طبيعيا ان ترى الجندي الفقير مصفر الاسنان من وسخ هذا الدخان .... وكان طبيعيا ان تشم رائحته الكريهة عن بعد ميل لان توليفة سجائر لولو الاردنية انذاك كانت تستخدم ايضا لصناعة محلول بيف باف لطرد الصراصير والحشرات .
* اما النسوان ... فالضابط الفحل في الجيش الاردني لا يكون فحلاً الا اذا تزوج من اربع ولا زلت اجهل الحكمة من تمتع الضباط الاردنيين بالنسوان على هذا النحو ... في الوقت الذي يلقن فيه المجندون من امثالي - النشيد الوطني الحماسي " لا دخان ولا نسوان" ليل نهار!!
* قضينا الاسبوع الاول من التدريب في المعسكر المذكور على موال واحد ... فمن السادسة وحتى التاسعة صباحا نركض حول المعسكر ونحن ننشد (لا نسوان ولا دخان) ... ونتوقف في اللفة الاخيرة امام (النافي) لنتناول وجبة الفطور والتي غالباً ما تكون فحلاً من البصل ودبشة من الحلاوة ... ثم نعود نركض حتى الواحدة ظهراً على ايقاع (لا نسوان ولا دخان) حتى تتقطع انفاسنا فلا نعود نفكر بالدخان ... ولا بالنسوان حتى ولو وزعن علينا بالجملة.
* من الواحدة حتى الخامسة عصرا نقاد مثل الاغنام الى قاعة نتلقى خلالها دروساً نظرية في العسكرية وكان الضباط المحاضرون يقرأون علينا كراسات رديئة الطباعة اكثرها ترجم عن نظريات عسكرية طبقها الالمان والحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية وخلال المواجهة في ستالينغراد وهي - طبعاً- تناسب ميادين القتال هناك ولا علاقة لها بمعسكرنا المضحك في احراش الجامعة الاردنية ونشيدنا الحماسي اليومي (لا نسوان ولا دخان).... كان الضباط يشرحون لنا وسائل النجاة في عرض البحر اذا ما غرقت حاملة الطائرات التي نركبها .... وفي الاردن لا توجد لا حاملة طائرات ولا حاملة حمارات .... والواحد فينا يمكن ان يغرق في بركة شخاخ لاننا كلنا لم نتدرب اصلا على السباحة لعدم وجود ماء .... ولان برك السباحة القليلة المتوفرة في المدن لا يتم الدخول اليها الا بعضوية وهي في الغالب مخصصة لابناء الذوات ..... بل واكتشفت ان المدرب نفسه لا يعرف السباحة .
* استبشرنا - بعد دخول الاسبوع الثاني- خيراً بعد ان قيل لنا ان هذا الاسبوع سيخصص للتدريب على السلاح ونمنا تلك الليلة ونحن نحلم بالمدافع والقنابل ومنا من كان يحلم بقيادة دبابة اسوة بجنود الجيش الاسرائيلي من طلبة الجامعات الذين كانوا - مثلنا- يلحقون بمعسكرات تدربهم على احدث الاسلحة وربما على الركض حول المعسكر ايضاً على ايقاع "لا نسوان ولا دخان" مع ان نصف الجيش الاسرائيلي من النسوان!!
* لكن ظننا خاب عندما وصلت الى المعسكر شاحنة تحمل بواريد استعملها لورنس العرب في الحرب العالمية الاولى وتبين ان هذه البواريد الاثرية هي السلاح الوحيد الذي سنتدرب عليه والتي سنستعملها للدفاع عن الوطن فيما لو هجمت علينا مجندات الجيش الاسرائيلي !!
* كانت بارودتي اطول مني وتنتهي بسكين طويلة صدئة يسمونها "سنجة" اصر المدرب على تدريبنا اصول غز العدو بها مع اني كنت يومها - ولا ازال - لا اصدق ان جندي العدو سيصل الي فارعا ذارعا حتى اغزة بسنجة صدئة ... وكان شكل الرصاصة التي سنطخها من البارودة مثيرا للضحك ... ويحتاج حشو الرصاص في البندقية الى مجهود ثلاثة اشخاص من حجمي ... هذا اذا تمكنا اصلاً من حشوها في مرمى النار والطريف ان المدرب طلب منا ان نتعلم فك البارودة وحشوها خلال اقل من دقيقة مشترطاً - طبعاً- ان نقوم بهذا العمل ونحن ننشد بحماس وبصوت عال (لا نسوان ولا دخان).
* لا ادري كم هدفا اصبت في نهاية الاسبوع ... لكن الذي اذكره انهم اخذونا الى جبل في منطقة "خو" قرب مدينة المفرق وزودوا كل واحد منا بخمس رصاصات وطلبوا منا التصويب على اهداف كانت منصوبة على بعد مائة متر وخلفها الجبل طبعا ... الذي اذكره اني انبطحت فوق البارودة ونظرت من خزق فيها بعيني الاثنتين - لان الخزق كان واسعا - يستخدم - كما قيل لنا- للتهديف واطلقت الرصاصات الخمس وانا اهتف بصوت جهوري " لا نسوان ولا دخان " فخرجت ذلك اليوم بعاهة في خصيتي اليمنى مع جرح في الخصية اليسرى بينما ظلت خصيتي الثالثة سليمة لسبب اجهله ... فالبارودة التي انبطحت فوقها - وانبطح فوقها قبلي الوف الجنود المتدربين منذ زمن لورانس الاول - كانت ترتد مع كل اطلاقة الى الخلف بقوة فاعصة العظم والمفاصل لمن يسندها بكتفه فما بالك بالمنبطح فوقها سانداً كعبها بخصيتيه ..... مثلي !!!
* طبعاً لم اصب الهدف ... وزميلي - سلطان هاشم الحطاب - الصحفي المعروف حاليا في الاردن و الذي كان يقف خلفي منتظراً دوره في الانبطاح والتصويب ومجهزا خصيتيه لهذه المهمة طبعا اقسم لي اني لم اصب الهدف .. ولا حتى الجبل الذي يقع خلف الهدف بل وابدى دهشته لان الاطلاقات الخمس لم تتسبب الا بخروج رصاصة واحدة من البندقية الامر الذي جعلني ابحث - معه- عن الرصاصات الاربع المتبقية بين افخاذي لعلها خرجت من مؤخرة البارودة بخاصة وان احدى المحاضرات التي القيت علينا في المعسكر حملت خسارة الجيش المصري في فلسطين الى الاسلحة الفاسدة التي كانت تطلق من الخلف... وقلت : لعل حظي جاء مع بندقية من هذا الطراز !!
* في الاسبوع الثالث اخذونا الى معسكر لقوات الصاعقة والمظليين ولسبب اجهله اختاروني حتى اكون من اوائل المجندين الذين سيقفزون من فوق برج مرتفع جداً يستخدم لتدريب الجنود على القفز بالمظلات ... والمظلة هنا عبارة عن حبل يتدلى من اعلى البرج وينتهي طرفه في آخر المعسكر ... كانت التجربة مثيرة ولا اذكر اني كنت صاحب قرار القفز لاني لم اقفز اصلاً ... لقد دفشوني من اعلى البرج دفشا فنزلت على الارض مثل (الشوال) وتم منحي في نهاية اليوم شهادة تفيد اني دخلت دورة مظليين!!!
* الاسبوع الاخير في الدورة كان مخصصاً للتدريب على المشي وتلميع البساطير والمرور امام المنصة بانتباه والقاء التحية للعلم وخلافه ... وهذه التدريبات - للامانة - هي الوحيدة التي يتقنها الجنود الاردنيون ... وقد اكد لي بعض سكان الضفة الغربية ان الجنود الاردنيين الفارين خلال حرب حزيران يونيو كانوا يفرون ببساطير حسن لمعانها وبعضهم كان يهتف وهو هاربا :" لا نسوان ولا دخان "
* وفي المساء اشركونا في دورة لتقصي الاثر حيث اخذونا ليلاً الى جبل اجرد خلف الجامعة وطلبوا منا البحث عن برميل زبالة قالوا لنا ان احد الضباط اخفاه في الجبل على سبيل التدريب ودورنا ان نبحث عنه ليلا بناء على احداثيات جغرافية مضحكة ... وتفرقنا في الجبل نبحث عن برميل الزبالة ... وعدنا الى المعسكر مرهقين بعد عشر ساعات من البحث وكل واحد منا يحمل برميلا او سلة او تنكة زبالة فارغة حيث تبين ان الجبل كان مكباً للنفايات ... والعجيب اننا جميعاً - وكنا حوالي 300 شخصاً- لم نعثر على الاثر المقصود الذي اخفاه الضابط !!
* طبعاً ... لم نجد اجابة عن مغزى هذا التدريب في عصر تبحث فيه الجيوش عن (الاثر) بالاقمار الصناعية وليس على طريقة الهنود الحمر ... وفي منتصف الليل ... وعلى ايقاع النشيد الوطني "لا نسوان ولا دخان"... ولعل هذا فسر لنا ما حدث في حرب حزيران يونيو حيث امرت احدى الكتائب الاردنية المتمركزة في مدينة الكرك جنوب الاردن بالتوجه نحو مدينة الخليل للدفاع عنها وزودت باحداثيات مماثلة للعثور على المدينة في الليل فاذا بالكتيبة تصل الى مدينة تبوك السعودية ربما لان الضابط الذي قادها كان من خريجي معسكرنا ... وتدرب مثلي على تقصي الاثر في مكب للنفايات !!
* المهم ... تخرجت من دورة تدريبية عسكرية مدتها شهر بشهادتين الاولى شهادة زور تنص على اني متدرب على استعمال البندقية ... والثانية شهادة زور تزعم اني دخلت بنجاح دورة مظلات ... ولولا لحسة من ذوق لمنحوني ايضاً شهادة طيار خاصة وان الدورة توقفت في احدى الايام لتناول الشاي في قاعدة جوية قرب المفرق سمح لنا خلالها بالنظر الى طائرة هوكر هنتر عن بعد ميل ونص!!!
* دخولي هذه الدورة العسكرية المكثفة جعلتني اتحسس عن قرب ليس فقط مشكلات جنود جيشنا الباسل الذي هرب خلال حرب حزيران يونيو 1967 من الضفة الغربية كلها خلال 16 ساعة ركضاً وقفزاً وهرولة على ايقاع النشيد الوطني (لا نسوان ولا دخان) ... وانما - ايضاً- اسباب النصر العسكري الاسرائيلي السهل على جميع جيوشنا العربية وفي جميع الحروب خاصة وان صديقاً سورياً اخبرني انه دخل دورة عسكرية مثلي في احد معسكرات دمشق الخالق الناطق دورتنا ولكن مع اختلاف في النشيد الوطني ... فبدلاً من (لا نسوان ولا دخان) كانوا - في سوريا- يهتفون (اصابيع البوبو يا خيار ... يسبح في البركة يا خيار)!! اما الجيش العراقي الباسل الذي دخل الاردن بعد بدء المعارك في حرب حزيران يونيو واستوطن في مدينة المفرق ولم يشارك في القتال فقد ترك المدينة بعد خمس سنوات عائدا الى بغداد بعد ان شطب على حميرها.
* هذا هو مستوى الدورة العسكرية المكثفة التي اعطيت انذاك لطلبة جامعيين يفترض بهم ان يكونوا (عسكر احتياط) لمواجهة الجيش الاسرائيلي في اي حرب جديدة وقد توقفت عند ابرز ما فيها ولم ادخل كثيراً في التفاصيل لانها - بصراحة- مخزية لا تسر الخاطر ... فهل يكفي هذا لاقناع بائع البطيخ بأني مثل بطيخته ضحية الحكام العرب وجيوشهم الذين رفعوا في حرب حزيران يونيو شعار " لا نسوان ولا دخان " في الوقت الذي كان فيه ملك الاردن ينام في احضان زوجتين وعشرين عشيقة .... وكان قائد الجيش المصري المكلف بادارة الحرب يتسامر بالسر مع ممثلة الاغراء برلنتي عبد الحميد ....
* في عام 1973 شن الجيشان المصري والسوري هجومهما المشترك على اسرائيل في حرب تشرين اكتوبر .... الاردن الذي لم يشترك في الحرب - وتبين لاحقا ان الملك حسين كان في تل ابيب - اعلن عبر اذاعته ان على الشباب القادرين التوجه الى اقرب مركز للدفاع المدني .... لبيت النداء وتوجهت الى اقرب مركز فعلا ... وهناك سألني الضابط :
شو بدك ؟
قلت له : اريد الدفاع عن الوطن
قال لي : اي روح اقلب وجهك .... وفرجيني عرض اكتافك..... ففرجيته .
Monday, March 9, 2009
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment