من قلم : مضر زهران
مع ظهور الدفعة الجديدة من تسريبات ويكليكس، برز احد "الكيبلات" التي اصدرتها السفارة الأمريكية في عمان والذي تحدث عن "بلطجة" يمارسها مشجعو نادي الفيصلي الرياضي واغلبهم من الشرق أردنين، ضد جماهير ومشجعي نادي الوحدات وهو نادي يمثل الاردنين من اصل فلسطيني. ذكر التقرير ان هتافات جماهير نادي الفيصلي في تلك الفترة شملت إسأت إلى الأسرة الحاكمة، وتحديدا إلى الملكة رانيا العبدالله عقيلة العاهل الأردني بالهتاف المشهور: "واحد، إثنين، واحد، إثنين، طلقها يا أبو حسين تنزوجك ثنتين".
كنت أعمل خبيرا إقتصاديا ومساعدا لمنسق سياسات العراق في السفارة الأمريكية في عمان في فترة إعداد ذلك التقرير في الشهر السابع من العام 2009. وإن كنت لا املك رفاهية الحديث عن تفاصيل عملي او اي شيء كنت فد قمت به ضمن مهامي الرسميةـ إلا أنني استطيع القول إنني اذكر تماما أنني أبلغت السفارة الأمريكية في عمان تفاصيل الهتفات التي كان يطقلها جماهير النادي الفيصلي في تلك المباراة، بما فيها "طلقها يا أبو حسين" إضافة إلى " عل مكشوف عل مشكوف، فلسطيني ما بدنا نشوف"
إلا أن أبرز ما يثير الغرابة في التقرير الذي اصدره نائب السفير الأمريكية في عمان لورنس مانديل، والذي حظيت بشرف العمل معه في أكثر من مناسبة، هو "صمت الملك الأردني على ما يحصل رغم وصول الإسأت إلى عائلته".
بعد تسرب هذا التقرير بأيام، هاجمت قوات الدرك الأردنية جماهير نادي الوحدات ليلة الخميس، العاشر من كانون الأول، مخلفة ما يزيد عن مئة مصاب منهم طفل في حالة حرجة، حيث ذكر شهود العيان ومنهم نائب سابق من أصل فلسطيني، أن قوات الدرك هاجمت جمهور نادي الوحدات دون أن يستفزها الجمهور على الإطلاق.
ما حصل لا يقف عند كونه عنف ملاعب، او قسوة اجهزة أمن، فالأمر أعمق من ذلك بكثير. فمنذ العام 2008، تبنت دائرة المخابرات العامة الأردنية سياسية شبه معلنة في عزل وإقصاء وترويع الأردنين من اصل فلسطيني، لأجل خلق وضع للفلسطينين في الأردن، (وهم الأغلبية حسب كافة تقارير وزارة الخارجية الأمريكية)، بحيث يصبحون على حافة الاقصاء والتهميش بدرجاته القصوى بهدف جعل وجودهم في الأردن مسألة خاضعة للتشكيك وبالتالي وضعهم على حافة تحولهم للاجئين من جديد، هذه الفكرة أبدعها إستراتيجو المخابرات الأردنية على اساس كونها ورقة ضغط على إسرائيل لمواجهة ما يراه الأردن توجها إسرائيليا لفرض حكم الاغلبية في الاردن، وبالتالي تأسيس وطن فلسطيني شرق النهر.
هذه السياسة بلا ريب شبيهة لحد كبير جدا بسياسة النخبة الحاكمة في جنوب إفريقيا التي اختلقت نظام الفصل العنصري، الأبارتيد، Apartheid لعزل الإغلبية السوداء عن السلطة وموارد البلاد، وتماما كما هو الحال في الأردن الأن، كانت شرطة جنوب إفريقيا تظهر عنفا غير مسبوقا في التعامل مع الأغلبية المهمشة بسبب أو دون سبب.
إلا أن شأن كرة القدم في الأردن هو أشد تعقيدا، حيث أن دائرة المخابرات العامة الأردنية تستخدم ملاعب كرة القدم لبث روح التفرقة والتمييز ضد الفلسطينين، حيث تحولت ملاعب الكرة الاردنية إلى أراضي معارك بديلة By Proxy تستعرض فيها الدولة الأردنية سطوتها على الأغلبية الفلسطينية وقدرتها على الترويع والسيطرة وكذلك تذكير الأردني من أصل فلسطيني بأنه ليس سوى "ضيف ولاجيء".
إن توقيت ما حصل يوم الخميس الماضي يعد غريبا جدا، فهو يأتي في وقت تتسم العلاقة بين الأردنين من اصل فلسطيني والشرق أردنين بالتعقيد الشديد خاصة بعد إجراء الأردن لإنتخابات مبنية على قانون الصوت الواحد الذي يعطي الأردنين من اصل فسطيني فرص محدودة للفوز ومقاعد معدودة جدا، حيث أصرت الحكومة الأردنية على تطبيق ذلك القانون رغم الإنتقادات الدولية من أقرب حلفائها، بحيث أصبح العرب في إسرائيل، والذين يمثلون ما يزيد بقليل عن 23 بالمائة من السكان، يتمتعون بأحد عشرا نائبا في الكنيست الأسرائيلي، في حين أن الأغلبية الساحقة الفلسطينية في الأردن بالكاد يمثلها نفس العدد من النواب في بلدهم.
كذلك فإن ما قمت به قوات الدرك الأردنية من إعتداء على جماهير نادي الوحدات إنما هو رسالة قوية جدا في توقيت فريد بعد تسريب ويكيليكيس للرسالة الدبلوماسية المشار إليها إعلاه، أيضا، فإن الملعب الرياضي الذي تمت فيه المبارة يسمى بإستاد الملك عبدالله الثاني الرياضي، مما يعطي الرسالة عمقا واضحا لا يحتاج الكثير من التفسير، بأن الاردنيون من اصل فلسطيني الأن يجب ان يعلموا أن أي تعاطف دولي لن يشفع لهم، بل سيوقعهم في مزيد من الألام والمعاناة. فهي رسالة فجة وواضحة وتحذير معلن من قبل الدولة الأردنية لهؤلاء.
من ناحية أخرى، فإن ما حدث ليشير إلى عمق الحفرة التي حفرتها لنفسها الحكومة الأردنية، فسياسات إقصاء الفلسطينين للضغط على إسرائيل تبين انها غير ذات جدوى، حيث ان إسرائيل تملك من القو ة ما يمنع الاردن حتى من مجرد محاولة فرض الفلسطينين كلاجئين عليها، كما ان تعثر مفاوضات السلام الذي قابله مزيد من التشدد الأردني في التعاطي مع الفلسطينين جعل الأردن خارج أي معادلة حل أكثر شمولا او واقعية من وجهة نظر كافة الأطراف المعنية بالسلام بما فيهم الفلسطينين انفسهم.
كذلك، فإن الأغلبية الفلسطينية، التي تتعمد الحكومة الأردنية الضغط عليها الأن، إنما هي عصب حياة الدولة الإقتصادي، حيث أنهم يسيطرون على قطاع الأعمال والإستثمارات كما و تبلغ تحويلات الفلسطينين العاملين في الخارج حوالي الأربعة مليارت دولار سنويا للأردن الذي لا يزيد ناتجه القومي الإجمالي عن 21 مليار دولار سنويا، مما يعني أن تهميش هؤلاء وأفقادهم الثقة ببلدهم إنما هو انتحار إقتصادي لدولة ذات موارد شحيحة وكذلك هو إنتحار سياسي لدولة تملك القليل من الأوراق السياسية لتلعب بها.
كذلك، فإن قوى التطرف العشائري في الأردن، وفي تنمرها على الأردنين من اصل فلسطيني تتجاوز بالامر للوصول إلى التنمر على الاسرة الحاكمة نفسها والإستخفاف بمقدسات البلادة السياسية، كما اشار تقرير السفارة الأمريكية في عمان، وهو أمر لا تملك مؤسسة العرش ألأردنية رفاهية السماح به ولا القدرة على مواجهته في نفس الوقت حيث أن ذلك سيعني عدم سيطرتها على الأجهزة الأمنية والجيش المسيطر عليهما بالكامل من العشائر الشرق اردنيةـ وهذا بحد ذاته أمر وضعت الدولة الأردنية نفسها فيها نتيحة منع الأغلبية الفلسطينية من أي تثميل ولو شكلي ضمن المنظومة الأمنية.
إلا أن الحكومة الأردنية لا تزال تبدو مصرة على الإستمرار في الحفر، معمقة الحفرة التي ابتعدتها لنفسها، حيث ان، دائرة المخابرات العامة هي من يصوغ السياسة الداخلية والخارجية للبلاد، ولذلك فان اي تأجيج او تصعيد للوضع الداخلي سيؤدي إلى مزيد من النفوذ لها، نفس هذا الأمر حدث أثناء الحرب الأهلية الأردنية عام 1970، حيث إعترف صراحة مدير المخابرات الأردني آن ذاك، نذير رشيد- في مذكراته الممنوعة من النشر في الأردن وفي أحاديث مطولة له مع فناة الجزيرة- انه هو ومؤسسته كانا يسعيان للتصعيد بل وحض الراحل ، الملك حسين، على مواجهة الفلسطينين، مما نجم عنه مجازر رهيبة بحق المدنين الفلسطينين في حين بقيت المنظمات المسلحة الفلسطينية على قيد الحياة بل وانسحبت إلى لبنان، وهو الأمرالذي لم يخدم اللاجئين الفلسطينين أو القضية الفلسطينية الإسرائيلين أو اللبنانين، بل خدم الأردن فقط.
ان كافة المؤشرات في الأردن توحي إلى تطور حالة من عدم الأستقرار الذي يمكن أن يتطور بسهولة إلى اضطرابات واسعة، إلا أن هذه الإضطرابات ستكون مختلفة عما حدث عام 1970، حيث ان الفلسطينين في الأردن هذه المرة لا يملكون أي سلاح أو قوة، وهم أكثر استعداد بعد اربعين عاما من الإضطهاد، لقبول فكرة تكوين وطن لهم شرق النهر. كذلك، فإن الدول الغربية و إسرائيل لا ترى بالضرورة في الاردن صورة الدولة المسالمة التي كانت تقاتل مجموعة من الإرهابين كما كان الحال عام 1970، بل ستكون صورة دولة شمولية تنكل بأغلبية شعبها، (وهو تماما ما يسعى إليه دهاقنة الأجهزة الأمنية الأردنية). مما سيدفع البعض الى التفكير في فرصة للدول العظمى لإحداث تغير جذري واقتناص حل دائم.
إن كان ما حصل في مباراة الخميس الفائت هو تحذير، فهو لم يكن تحذيرا للفلسطينين في الاردن وحسب، بل جرس إنذار بخطورة الوضع القائم في الأردن للمنطقة ككل بما فيها الولايات المتحدة وإسرائيل.
Saturday, December 11, 2010
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment