حالة شفافية مغرقة في الطرافة والجرأة اجتاحت نخبة من رموز الرعيل الأول في الصحافة الأردنية، على هامش اجتماع تشاوري نظمه شباب الجسم النقابي تحت عنوان التجهيز للتغيير في النقابة.
.. أمام كاميرا فضائية نورمينا الخاصة الوحيدة التي سجلت ووثقت اللقاء، استلم المايكروفون نقيب الصحافيين الأسبق راكان المجالي ليدلي باعتراف نادر: نقابة الصحافيين كانت تدار دوما عبر جهاز المخابرات العامة في الماضي.
بعد المجالي تقدم للمنصة الصحافي المخضرم خالد محادين، وأمام نفس الكاميرا مسجلا الملاحظة الأخطر: المقالات كانت تأتي على سيديات (يقصد أقراص) مكتوبة وجاهزة لكي تنشر باسم بعض الكتاب في اليوم التالي.
طبعا محادين لا يقصد هنا وزارة الأوقاف، فالأخيرة توزع أوراقا مماثلة على خطباء المساجد، لكن الطرافة تجلت مع التصحيح الفني الذي تقدم به الصحافي العتيق عمر عبنده حيث قال: لابد من تصحيح معلومة، فالمقالات كانت تأتي جاهزة ومطبوعة في الماضي وليس على أقراص، وبعض زملائنا الكتاب من الذين يهاجمون الأجهزة الأمنية اليوم كانوا يتسابقون لوضع اسمائهم عليها مقابل خمسة دنانير.
.. طبعا وسط نحو 300 صحافي حضروا اللقاء لم يضحك أحد، فالجميع يعرف هذه الحقائق ضمنيا عما كان يحصل في الماضي بعدما توقف منذ فترة قصيرة.
الأهم أن الصحافة الأردنية تشهد هذه الأيام حديثا متواصلا عن تدخلات الأجهزة الأمنية وقمعها للحريات، وكأن البعض يسعى لتبرئة الذمة وتفسير العجز بأثر رجعي، علما بأن الأجهزة الأمنية بالعادة تملأ الفراغ وبأن رجل الأمن سينصرف لعمل آخر لو لم يجد متطوعين من الصحافيين يعرضون صدورهم وخدماتهم، فقد استمعت شخصيا لرجال أمن يتذمرون من إلحاح بعض الصحافيين على التنسيق معهم والتحريض على زملائهم.
وللعدالة والإنصاف، لا يقتصر الأمر على الأجيال السابقة من حرس المهنة القدماء الذين يتقدمون باعترافات مثيرة عن الماضي حاليا، فالمخبر المتطوع ظاهرة اجتماعية حتى في أوساط بعض الصحافيين الشباب وهذه مسألة تناسب دوما رجل الأمن، خصوصا ان الحسد والنميمة (فضيلة) أساسية في الوسط الإعلامي الأردني تسبق حتى المهنية والإبداع او تحل مكانهما في غالب الأحيان.
وفي السياق ثمة قصة طريفة تتسلى بها مجالس الصحافيين الأردنيين مختصرها الآتي: سهر بعض الشباب حتى الصباح وشربوا ما تيسر من الأقداح، وقال أحدهم وهو في حالة زهزهة كلاما من الطراز الثقيل.
..في الصباح الباكر وقبل بدء الدوام الرسمي توجه صاحبنا تلقائيا لمقر الجهاز الأمني وأبلغ المسؤولين حرفيا بما ورد على لسانه في الليلة السابقة وتقدم باعتراف كامل، وعندما سأله الضابط : لماذا تفعل ذلك؟ .. أجاب: أردت أن لا يسبقني أحد في تقديم المعلومة، خصوصا من أولاد الحرام الذين سهرت معهم.
***
الطفل اليمني أحمد ذو العشر سنوات ظهر على إحدى الشاشات ووجهه مغطى بالقطن الطبي ليجلدنا جميعا بالعبارة التالية: لو لم يرحل اليوم لرحل في وقت أولادنا وأحفادنا - طبعا يقصد الرئيس علي عبدلله صالح-
لماذا كبر هذا الطفل إلى هذا الحد؟.. من الذي عذب الطفولة ودفعها للخروج للشارع؟..هل سيبقى الرئيس صالح فعلا بالحكم إلى ان يشاهد صبي تعز أحفاده يقاومونه؟
.. القصة يا جماعة كبيرة كما يقول الصديق خيري منصور فوجه هذا الطفل استقبل زائرا لم يكن مألوفا، هو عبارة عن عبوة غاز انفجرت في أنف الطفل الذي أخرجه وأقرانه المعلمون للتو في مدينة تعز.
أصيب الفتى وغطت الملصقات الطبية ثلثي وجهه، لكنه أبلغ مراسل الفضائية بأن الرئيس اليمني سيسقط حتما حتى لو بعد أجيال .. قالها الطفل الجريح بإصرار غريب.
واضح ان هذا الطفل لا يخضع للتنويم المغناطيسي ولا استحكمت في عقله الغض الطري أدبيات تنظيم القاعدة، ولا تناول للتو حبة من حبوب القذافي، ولا أعتقد شخصيا ان الموساد جنده في تعز لكي يخرج للشارع ضد الرئاسة الأبدية في عالمنا العربي.
إنه طفل بعمر الورد ينبغي ان يخصص كل وقته للدراسة واللهو، ومن الواضح انه يتوجب عدم تحويله إلى ماكينة بشرية تصاب في المظاهرات ويتحول وجهه لمضافة تستقبل قنابل الغاز التي يقال ان نسختها اليمنية سامة وتشل الحركة، والسؤال الذي يعصف بضميرنا جميعا ما الذي اقترفناه نحن الآباء بحق إطفالنا؟.. ما الذي فعله قادتنا بنا؟
مشهد أخوتنا اليمنيين الذين اجتاحتهم قوات الشرعية والاستقرار في ساحات الاعتصام مؤلم حد اللوعة: رجال يفترشون الأرض البائسة وقد اجتاحتهم حمى غريبة وكل شيء في جسدهم يرج ويهتز أمام الكاميرات بسبب قنابل الغاز التي يقول الأطباء انها تصيب الضحية بارتجاج دماغ وتؤدي لانهيار جهازه العصبي، وقد تنتهي بالموت او الشلل.
يبدو أن قنابل غاز الشرعية في صنعاء مختلفة عن تلك التي تزور أحيانا رؤوس الشعب الفلسطيني، فهي قنابل أكثر تطورا وفتكا وتليق بحكومات عربية تحرص على تخصيص مال شعوبها لشراء واستيراد أحدث أدوات القمع المجنون وأكثرها تطورا، فيما لا يوجد في مستشفيات صنعاء مثلا جهاز رنين مغناطيسي، وفيما يتحول المريض اليمني عندما يأتي لعمان لهدف استثماري لكل تجار وفهلوية الطب ومهنة الملائكة.
صديقي الشيخ محمد خلف الحديد سجل في عمان مرة المفارقة التالية : الشاحنة التي تترصد سيارات المواطنين وتخالفهم هي الأحدث والأغلى على مستوى الكرة الأرضية، أما غالبية سيارات الإسعاف في مستشفيات الحكومة فعمرها يزيد عن نصف قرن ولا تمشي إلا بعد الدفش.
حجم الألم لا يطاق فالشرطي العربي تخصص له الأنظمة المرعوبة كل إمكانات المال لكي يتجول مدججا بآلات القمع في ساحات التغيير العربية، أما مستشفيات طرابلس- إن وجدت - مثلا فتفيض فيها المجاري يوميا، وفي صنعاء لا توجد مستشفيات حقيقية أصلا ولا حتى جامعات حقيقية، لان ميزانية الدولة العربية عمليا مقسمة بين اثنين: المحاسيب والفاسدين ولصوص النظام ونفقات الأمن الوطني، حفاظا على الشرعية الوهمية التي تتمسك بالمنصب على جثث من مواطني الشعوب.
ومن يخرجون لساحات التغيير العربية لا يخرجون من أجل أنفسهم ولا امتيازاتهم ولا من أجل عائلاتهم، بل من أجل أوطانهم وشعوبهم وابسط ناشط أو مناضل أو داعية للإصلاح في عالمنا العربي أكثر ذكاء من أكبر الأغبياء الكثر المترامين حول أقدام الزعيم والسلطة.
أيهما أفضل الجحش ام الحصان؟
لذلك فقط تختار السلطات والأنظمة الأقل ذكاء لخدمتها فيما يلجأ الأذكياء والمحترمون للشارع ويطالبون بالإصلاح ويتحملون الكلفة عسفا وسجنا واعتقالا وقتلا في ساحات التغيير.
الأمر أشبه بالسؤال الذي طرحته يوما على إحدى الفضائيات المحلية عندما قلت باللهجة الأردنية العامية: نفسي أفهم لماذا تفضل الأنظمة في العالم العربي الجحش وتقصي الحصان؟.
غرقنا مع الأصدقاء والزملاء في عمان بنقاشات مطولة حول الفروقات بين الجحش والحصان على أمل التمكن من تحديد تلك الزوايا والمزايا التي تجعل زعماءنا يميلون للجحش ويتجنبون الاستثمار في الحصان.. بصراحة فشلنا بالتوصل إلى تصور لكن المحاولات مستمرة.
والصراع في الواقع أزلي بين دهاة وأدوات الأنظمة ومحركي الشارع، لكن ما يثير دهشتي حقا هم أولئك الأغبياء الجهلة الذين ظهروا كبلطجية في خدمة الظلم في جميع الساحات العربية التي تطالب بالتغيير، ولم أكن أعلم مسبقا بأن هذا العدد الهائل من البلطجية يعيش بيننا كمواطنين.
وقد أتفهم ان البلطجي الذي يحاول الاعتداء على من يطالب بالتغيير يحصل على شيء حقيقي مقابل بلطجته، لكن ما يجري غريب فهؤلاء في أرذل سلم المجتمعات اقتصاديا وثقافيا، ومصلحتهم المباشرة بالعدالة والإصلاح، لكن الجاهل عدو نفسه كما يقول أحد الأصدقاء.
ومشهد البلطجية الذي تعرضه فضائيات العرب في غاية الإثارة، فهم على هيئات متعددة ومتنوعة.
وقد لفتت نظري النسخة اليمنية في الواقع، فرجل بشعر منكوش يرتفع للأعلى ولحيته لم تصلها الشفرة منذ سنين يحمل سلاحا رشاشا ويطلق النار في ميدان تعز على طلاب مدارس فيصيب أربعة منهم، وهو يتجول على طريقة رجل الغابة.
وفي مصر امتطى أنصار الحزب الحاكم البغال والجمال لمنع الثورة بعدما فشل الأمن المركزي فأظهرت كاميرا بي .بي.سي مشهدا للافتة طريفة جدا على أحد أعمدة ميدان التحرير كتب عليها (.. هنا موقعة الجحش التي قادها الرئيس الراحل محمد حسني مبارك عام 2011).
وليبيا بدورها تعاني من نقص حاد في البلطجية، فكان استيرادهم من مرتزقة افريقيا والدول الآيلة للسقوط هي الخيار الوحيد.
وفي عمان بعد الدراسة والتمحيص تبين ان قوة البلطجية التي ظهرت بالساحة من باعة البسطات الذين يعملون ساعات طويلة لتحصيل لقمة العيش.
هؤلاء حصلوا على المال مقابل خدمتهم الجليلة في الحفاظ على الاستقرار العام، حيث تمثلت المهمة الوطنية حصريا بتكسير رؤوس ستة من قادة المسيرات وتحطيمها بالهراوات وقطع البلاط المدببة لتقع البلاد لاحقا بأزمة حادة من الطراز الثقيل.
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment